فصل: مسألة يتصدق بالعبد على الرجل فيعتقه المتصدق من قبل أن يقبضه المتصدق عليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة وهب الرجل لابنه هبة يريد بها الصلة:

قال سحنون إذا وهب الرجل لابنه هبة يريد بها الصلة، فإنه لا يجوز له اعتصارها منه، كان الابن صغيرا في حجره أو كبيرا بائنا منه، والهبة للصلة مثل الصدقة، ولا يجوز له اعتصارها، وذلك أن تكون ابنته الكبيرة أو ابنه الكبير يكون ضعيفا يخاف عليهما الخصاصة، فيصلهما نظرا منه لهما، وكذلك إذا وهب لصغير نظرا منه له، لما يخاف عليه من الخصاصة؛ وإنما يعتصر الأب هبته وعطيته من الابن إذا كان الابن في حجره وله مال كثير، أو البائن منه وله مال كثير، وليس يريد بذلك صلته، فذلك الذي يعتصره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الصدقة لا تعتصر؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» «وقوله لعمر بن الخطاب في الفرس الذي كان حمل عليه في سبيل الله: لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم؛ فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» والهبة على سبيل الصدقة لمن كان قليل ذات اليد، مخافة الخصاصة كالصدقة، فلها حكم الصدقة في أنها لا تعتصر، وإن سماها هبة، وإنما أجيز للأب فيما تصدق به على ابنه أن يكتسي من صوف الغنم، ويشرب من ألبانها، ويأكل من لحومها إذا تصدق بها عليه، وأن يأكل من ثمر النخل إذا تصدق بها عليه، حسبما مضى في رسم نذر، من سماع ابن القاسم، وأجاز في رسم سلعة سماها منه للأب أن يشتري ما تصدق به على ابنه، وذلك كله بخلاف الأجنبي للشبهة التي له في مال ابنه؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: أنت ومالك لأبيك، وقد مضى هناك تحصيل القول فيما يجوز للأب والأجنبي فيما تصدقا به، من الرجوع في الأصل أو الغلة بشراء أو عطية من المتصدق عليه، أو من غيره مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة وهب لولده هبة لله أو لوجه الله:

قال ابن الماجشون: كل من وهب لولده هبة لله، أو لوجه الله، أو لطلب الأجر والثواب من الله، أو لصلة قرابة أو رحم، لا يعتصرها أبدا، وإنما تجوز العصرة إذا وهب أو نحل نحلة مرسلة، لم يقل لصلة رحم، ولا لوجه الله، ولا على وجه طلب الأجر من الله، فإن هذا يعتصر، قال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن الماجشون هذا مثل ظاهر قول عمر بن الخطاب في المدونة من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه الصدقة، فإنه لا يرجع فيها، ونحوه في مختصر ابن عبد الحكم، وقال مطرف: إذا وهب لولده على وجه الصلة، أو لوجه الله، كان له أن يعتصرها أبدا حتى يسميها صدقة، فإذا سماها صدقة لم يجز له أن يعتصرها، والقول الأول أظهر؛ لأن الشيء الموهوب قد خرج عن ملك الواهب بالهبة، فلا يكون له الاعتصار إلا بيقين، وهو أن لا يقول: لله، أو لوجه الله، أو لطلب الأجر والثواب من الله؛ لأنه إذا قال ذلك، احتمل أن يريد به الصدقة؛ لأن الأصل في الصدقات ما كان القصد به وجه الله عز وجل، وابتغاء الثواب من عنده، لا عين المتصدق عليه؛ والهبة ما كان القصد به عين الموهوب له مع إرادة الثواب على ذلك من الله عز وجل؛ فإذا قال في هبته لله، أو لوجه الله، دل على أن ذلك هو قصده بهبته لا عين الموهوب له، فكانت في معنى الصدقة؛ ووجه قول مطرف أن الهبة، وإن كان يقصد بها عين الموهوب له، فالثواب مبتغى فيها أيضا، فلا تخرج الهبة عن حكمها في الاعتصار إلى حكم الصدقة بقوله فيها لوجه الله حتى يسميها صدقة، وبالله التوفيق.

.مسألة تصدقت في صحتها بأكثر من ثلثها:

قال سحنون في امرأة تصدقت في صحتها بأكثر من ثلثها، فلم يعلم الزوج بصدقتها حتى ماتت، ثم علم الزوج بعد الموت فقال: أنا أرد ذلك؛ لأني أرثه، قال ذلك له أن يرده، فقال له: يرده كله؛ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في الواضحة لمطرف، وابن الماجشون، ولابن القاسم من رواية أصبغ عنه أن ذلك نافذ، ولا رد للزوج فيه بعد موتها؛ وهذا الاختلاف على القول بأن فعلها محمول على الإجازة، فمن راعى المعنى، وهو أنه إنما كان للزوج أن يرد فعلها فيما زاد على الثلث، ما دامت العصمة بينهما، من أجل ما له من الحق في مالها.
قال: إن له أن يرده بعد موتها؛ لأن حقه في مالها لا ينقطع بموتها، بل يجب بوجوب الميراث له فيه؛ ومن لم يراع المعنى، قال: ليس له أن يرده بعد موتها؛ إذ ليست بزوجة له؛ لانقطاع العصمة بينهما بموتها، والقول الأول أظهر؛ لأن الأحكام إنما هي للمعاني لا للأسماء، وأما على القول بأن فعلها فيما زاد على الثلث على الرد حتى يجيزه، فلا يحتاج بعد موتها إلى رده، وقد مضى بقية القول على هذه المسألة، وما يتعلق بها من معناها، في رسم الكبش، من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة يستودع الرجل الوديعة ثم يتصدق بها على رجل:

قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يستودع الرجل الوديعة ثم يتصدق بها على رجل يقول: اشهدوا أني قد تصدقت بالوديعة التي عند فلان على فلان، ولا يكون منه أكثر من ذلك، ولم يأمره بأن يقبض له، ثم مات؛ قال: إن علم المستودع أنه تصدق بذلك، فأراها للمتصدق عليه؛ وإن لم يعلم، فلا أرى للمتصدق عليه شيئا؛ قلت: من أي وجه؟ قال: من قبل أنه إذا علم أنه تصدق بما في يديه على رجل، فقد صار قابضا للمتصدق عليه حتى لو أراد صاحب الوديعة أخذها؛ لكان ينبغي للمستودع أن يدفعها إليه، فإن دفعها ضمنها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في سماع سحنون من كتاب الوديعة، وقد مضى الكلام عليها هناك مستوفى، ومضى أيضا طرف منه في رسم العشور، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، فلا معنى لإعادة ذلك.

.مسألة مرض فتصدق على امرأته بمائة دينار في مرضه:

وسئل سحنون عن رجل مرض فتصدق على امرأته بمائة دينار في مرضه، فقبضتها وحازتها، ثم إن المرأة مرضت فتوفيت قبل زوجها؛ فهل ترى لها الصدقة جائزة أو لا، والثلث واسع؟ قال: إن حملها الثلث فهي جائزة لورثة المرأة، ويقضي منها دينها إن كان عليها دين.
قال محمد بن رشد مثل هذا من قول ابن القاسم في آخر رسم الجواب، من سماع عيسى: إن ذلك يكون لورثتها من ثلثه بعد موته، وإن لم تقبضها في حياته، فعلى هذا لم يحكم لها بحكم الوصية، وقد قيل: إنها يحكم لها بحكم الوصية، فيختلف من هذه المسألة على هذين القولين في خمسة مواضع قد ذكرناها في رسم الجواب المذكور، فلا معنى لإعادته.

.مسألة أعطى رجلا غلة كرمه يستغلها:

وسئل سحنون عن الرجل إذا أعطى رجلا غلة كرمه يستغلها، أو سكنى داره، ثم تصدق به على ابن له صغير، فقلتم: إنه إذا كان ذلك الشيء في يد المسْكَن، أو المعطَى يوم تصدق على ابنه بذلك الشيء؛ أن كون تلك الأشياء في يد المُسكَن أو الممنوح قبض للمتصدق عليه، فكيف يكون قبضه قبضا للمتصدق عليه؛ أيقول للذي منح غلة الكرم وسكنى الدار: إني قد قبضت له، أو قد حزت له، أو يشهد المتصدق به أن فلانا الذي في يديه ذلك الشيء قد استخلفته على القبض لابني، وقد قبض ذلك.
فقال: إن ذلك لحسن، وقوة الصدقة أن يشهد بذلك عليه لابنه هو والذي في يديه؛ وإن لم يشهد بذلك واحد منهما، ولم يقل شيئا، فهي حيازة للمتصدق عليه، وإن أحب أن يمنح الأرض وغلة الكرم وسكنى الدار، ثم الصداقة في فور واحد، أن يقول: أشهدكم أن سكنى هذه الدار، وغلة هذا الكرم والأرض لفلان عشر سنين، فإذا انقضت العشر سنين فهي لفلان صدقة؛ وذلك أن أصحابنا اختلفوا فيها؛ وإن لم يكن الأمر في فور واحد، جازت الصدقة، إلا أنه أقوى عندي أن يكون في فور واحد؛ لاختلاف أصحابنا فيه.
قال محمد بن رشد: أما إذا سكن الدار، أو أخدم العبد، أو منح الأرض، وتصدق بالأصل في فور واحد، فلا اختلاف في أن قبض المسكن أو المخدم أو الممنوح قبض للمتصدق عليه بالأصل؛ لأن المسكن والمخدم والممنوح إنما يرتفقون بما أرفقوا من ذلك على ملك المتصدق عليه، لا على ملك المتصدق؛ إذ قد سقط حقه من جميع ذلك؛ وأما إذا تقدم الإسكان في الدار والاختدام في العبد، والمنحة في الأرض، وما أشبه ذلك للصدقة، فاختلف هل يكون قبض المسكن والمخدم والممنوح قبضا للمتصدق عليه أم لا؟ على قولين؛ أحدهما: أنه يكون قبضا، وهو قوله في المدونة. والثاني: أنه لا يكون قبضا له، فما في المدونة على قياس القول بأن المخدم يختدم العبد من يوم الصدقة على ملك المتصدق عليه لا على ملك المتصدق؛ وكذلك المسكن والممنوح.
والقول الثاني على أنه إنما يختدم ويسكن ويستغل على ملك المتصدق، فلو جنى على العبد جناية؛ لكان الإرث على ما في المدونة للمتصدق عليه، وعلى القول بأنه لا يكون حائزا له للمتصدق، وقد مضى هذا المعنى في رسم الكبش، من سماع يحيى، وبالله التوفيق.

.مسألة يجوز للرجل أن يشتري كسر السؤال:

وسئل سحنون هل يجوز للرجل أن يشتري كسر السؤال، فقال: نعم، قيل له: ولم، وقد جاء الحديث: «إنما هي أوساخ الناس؟» فقال: ألا ترى إلى حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: «إنها صدقة على بريرة، وهي لنا هدية».
قال محمد بن رشد: لا إشكال في جواز شراء كسر السؤال؛ إذ اختلف بين أهل العلم في أنه يجوز للمسكين بيع ما تصدق به عليه، من الزكاة وغيرها من غير الذي تصدق بها عليه، وأن يهبه ويتصدق ويفعل به ما يفعل ذو الملك في ملكه، والأصل في جواز ذلك قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو رجل له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين لغني».
فقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في هذا الحديث، «أو رجل اشتراها بماله» نص على جواز شراء كسر سؤال وغيرها من الصدقات من الذي تصدق بها عليه، إذا لم يكن هو الذي تصدق بها؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لعمر بن الخطاب في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله: «لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم.
فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه»
فالاستدلال بهذا الحديث على ما سأل عنه السائل من شراء كسر السؤال، أولى من الاحتجاج بحديث بريرة الذي احتج به سحنون، وإن كانت الحجة به صحيحة، والاستدلال به ظاهر؛ لأنه إذا كان لنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أن يأكل الصدقة المحرمة عليه، فانتقالها إليه من عند الذي تصدق بها عليه بالهدية، جاز للغني أن يأكل الصدقة المحرمة عليه بانتقالها إليه أيضا من عند الذي تصدق به عليه بالشراء، أو بسائر الأشياء التي تنتقل بها الأملاك عن ملاكها، ولما اعترض عليه السائل فقال له: ولم أجزت للرجل شراء كسر السؤال، وقد جاء الحديث إنما هي أوساخ الناس، لم يرد عليه اعتراضه، وعارضه بالحديث الذي نزع به، فصار في ظاهر أمره مسلما لاعتراضه، وكان الوجه أن يرد عليه اعتراضه، ويبطله ولا يعارضه، بأن يقول له: ليس هذا موضع الحديث الذي اعترضت به؛ لأنه إنما جاء في تحريم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ الصدقة على أنه أن يأخذوها ممن وجبت عليهم تطهيرا لأموالهم، فقال: «لا تحل الصدقة لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس يغسلونها عنهم» وأما أخذها من غير الذي ظهر بها ماله بوجه، يجوز من شراء أو عطية، فذلك جائز؛ لأنها ليست بأوساخ في هذا الموضع، وبالله التوفيق.

.مسألة يتصدق بالعبد على الرجل فيعتقه المتصدق من قبل أن يقبضه المتصدق عليه:

من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم. قال محمد بن خالد: قلت لابن القاسم، فالرجل يتصدق بالعبد على الرجل فيعتقه المتصدق من قبل أن يقبضه المتصدق عليه، فقال ابن القاسم: أرى عتقه ماضيا، ولا شيء للمتصدق عليه؛ قال: قلت لابن القاسم: فلو كانت جارية فوطئها فحملت منه؟ فقال ابن القاسم: هي أم ولد له، قلت لابن القاسم: ولا تؤخذ منه قيمتها للمتصدق عليه، فقال ابن القاسم: لعل ذلك أن يكون.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي تصدق بالعبد، ثم أعتقه أن العتق أولى من الصدقة، هو قوله وروايته عن مالك في العتق الثاني من المدونة، زاد فيها: وسواء علم المتصدق عليه بالصدقة أو لم يعلم، وقال المخزومي: هذا إذا كان إشهاده بالصدقة، وبين ما أحدث من العتق، ما لو علم المتصدق عليه بالصدقة بطلب الحوز، أمكنه ذلك؛ وأما إن لم يكن بين إشهاده على الصدقة، وبين ما أحدثه من العتق قدر ما يمكن فيه الحوز، لو علم، فالصدقة ماضية، ويبطل العتق؛ وقول المخزومي عندي خلاف مذهب ابن القاسم؛ إذ لا فرق في القياس بين أن لا يعلم وبين ألا يكون بين الصدقة والعتق ما يمكن فيه الحوز لو علم، فقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه إنما رأى العتق أولى من الصدقة بكل حال، مراعاة لقول من يقول: إن للمتصدق أن يرجع في صدقته، ما لم تحز عنه، ويقبضها المتصدق عليه منه، فهو استحسان في العتق لحرمته؛ والذي يأتي على مذهب مالك في أن الصدقة تجب على المتصدق، ويحكم عليه بها، وإن لم تقبض منه، أن تصح الصدقة ويبطل العتق، وهو قول ابن القاسم، في سماع عبد الملك بن الحسن؛ ويحتمل أن يكون قول ابن وهب؛ إذ لم ينص في الرواية على اسم واحد منهما، وإنما قال فيها، وسئل بعد أن تقدم ذكرهما جميعا، ولا وجه لتفرقة المخزومي بين ألا يكون بين الصدقة والعتق من المدة ما يمكن فيه الحوز، وبين أن يكون بينهما ما يمكن فيه الحوز، فلا يعلم؛ لأنه إذا لم يعلم فلم يمكنه الحوز؛ والصحيح في هذه المسألة على ترك مراعاة قول أهل العراق، أن تكون الصدقة أولى من العتق، إلا أن يكون المتصدق عليه علم بصدقته، ففرط في الحوز، حتى أحدث المتصدق العتق؛ فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال؛ أحدها: أن العتق أولى على كل حال، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك. والثاني: أن الصدقة أولى على كل حال، وهو الذي يأتي في سماع عبد الملك. والثالث: قول المخزومي: إن العتق أولى على كل حال، إلا أن يكون بين الصدقة والعتق ما يمكن فيه الحوز من المدة. والرابع: ما أحدثه من أن تكون الصدقة أولى من العتق إلا أن يكون المتصدق عليه علم بصدقته، ففرط في الحوز حتى أحدث المتصدق العتق، وسيأتي في سماع عبد الملك، إذا قال الرجل في عبده نصفه صدقة على فلان، ونصفه حر، ونتكلم على تحصيل القول في ذلك إن شاء الله.
ويأتي في أول سماع أصبغ الواقع في آخر الكتاب إذا تصدق به ثم باعه، فنتكلم عليه إن شاء الله؛ وأما إذا تصدق بجاريته على رجل ثم أحبلها قبل أن يقبضها المتصدق عليه، فيجري الأمر في ذلك على قياس ما تقدم في العتق في الوجوه كلها، حيثما كانت الصدقة أولى من العتق، كان للمتصدق عليه أن يأخذ الجارية وقيمة ولدها، أو قيمتها يوم أحبلها دون قيمة ولدها على اختلاف قول مالك المعلوم في ذلك؛ وحيثما كان العتق، أولى من الصدقة كانت أم ولد للمتصدق بها؛ واختلف هل تكون عليه قيمتها للمتصدق عليه بها أم لا؟ فقال في هذه الرواية: لعل ذلك أن يكون؛ وقال في سماع أصبغ الواقع في آخر الكتاب ذلك بمنزلة العتق، وهو قول أصبغ؛ وقال ابن وهب في سماع عبد الملك بعد هذا، أن عليه القيمة للمتصدق عليه وهو الصحيح؛ لأنه أفاتها عليه باستمتاعه بوطئها، وله الاستمتاع بها فيما يستقبل، فلا يبطل حق المتصدق عليه بها، وهو يستمتع بها، ولو باعه المتصدق عليه، فلم يقبض ذلك المشتري حتى مات المتصدق والصدقة بيده، فقال مطرف وابن الماجشون وابن حبيب، وعيسى بن دينار البيع حوز، وهي جائزة للمبتاع؛ وقال أصبغ: ليس البيع بحوز، وفي كتاب العيوب من المدونة دليل على القولين جميعا، قال مطرف: وكذلك لو وهبه، وقال ابن الماجشون لا تكون الهبة حوزا؛ لأنها تحتاج إلى حوز، ولا يحتاج العتق والبيع إلى حوز؛ وقال أصبغ: لا تكون حوزا، إلا في العتق وحده.

.مسألة أعطى رجلا قرية أو دورا أو غلاما عطايا حازها المعطى وقبضها:

من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم قال: وأخبرني عبد الملك بن الحسن، عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سئل عن رجل أعطى رجلا قرية أو دورا أو غلاما عطايا، حازها المعطى وقبضها، غير أنه شرط عليه في عطيته شرطا، وكتب عليه به كتابا إن مات المعطي قبل المعطى، فالعطية ماضية للمعطى، وإن مات المعطى قبل المعطي رجع المال إلى المعطي، وكان أولى بماله، ولم يكن فيها مورثا لورثة المعطى، فعلى هذا أعطى، وبه كتب عليه وأشهد. فمات المعطي وبقي المعطى والمال بيده؛ فهل تكون للمعطى؟ أو كيف يكون أمرها، وكان المعطى خصما؟ قال ابن القاسم: أراها من الثلث بعد موت المعطي إذا هلك قبل المعطى، وهو قول مالك أو ما أشبهه.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة، ومضى القول فيها مستوفى في أول سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة له ولدان فأعمر أحدهما داره جعلها له سكنى حياته:

قال عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة فيمن كان له ولدان، فأعمر أحدهما داره جعلها له سكنى حياته، فمات الأب وقد قبضها الولد وحازها؛ قال: يكون نصف الدار له بميراثه يصنع به ما شاء إن شاء باع، وإن شاء حبس، ويسكن النصف الآخر على ما عاش؛ فإذا مات، صار إلى أخيه أو إلى ورثته إن مات أخوه، وقال أصبغ بن الفرج مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا اختلاف فيها، ولا إشكال في شيء من معانيها، على مذهب مالك في أن العمرى ترجع إلى المعمر إذا مات المعمر؛ والخلاف فيها خارج عن المذهب، قيل: إنه تكون للمعمر ملكا، وإن لم تكن معقبة، وقيل: إنه إنما تكون له ملكا إذا كانت معقبة، للآثار الواردة في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، ولم يأخذ بها مالك لمخالفة العمل بها على أصله في أن العمل المتصل بالمدينة مقدم على أخبار الآحاد، لاسيما إذا خالفت الأصول كهذه، وقيل: إنه لم يخالفها، وإنما تأولها على مذهبه، والأول أظهر، والله أعلم.

.مسألة يتصدق على ابن ابنه برأس:

قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يتصدق على ابن ابنه برأس، وهو صغير، وأبو ابن ابنه المتصدق عليه، فيوكل الجد وكيلا يحوز لابن ابنه ذلك الرأس، فعمد ذلك الوكيل إلى ذلك الرأس فكاتبه إلى أعوام بكتابة منتقضة أو غير منتقضة، ثم يقيم الرأس في خدمة المتصدق يختدمه بحال ما كان قبل الصدقة إلا أن ابن ابنه الذي تصدق به عليه يكون معهم طعامهم واحد، ومنامهم واحد، وذلك الرأس يخدمهما جميعا حتى مات الجد المتصدق، فقام ورثة الجد إلى الرأس، فأخذوه وقالوا: للغلام الذي تصدق عليه به أنه لم يحزه حائز، وقال الغلام وأبوه إن الذي كان وكل بالنظر له والحوز عليه، قد كاتب عليه ذلك الرأس، وكان في الكتابة أن يخدم المتصدق عليه حتى يؤدي كتابته؛ فهل يكون هذا حوزا للذي تصدق به عليه، ولم يؤد المكاتب من كتابته شيئا حتى هلك المتصدق به؛ قال: سواء كانت الكتابة منتقضة أو غير منتقضة إذا كان العبد إنما ترك ثبت في ناحية الجد المتصدق لمكان ابن الابن المتصدق عليه وخدمته، فهو يقوم بخدمته والقيام عليه، فلا يضره إن خدم الجد المتصدق أحيانا بعد أن يكون قد أخرجه من يده حين تصدق به إلى هذا الرجل يحوزه مكاتبه على وجه النظر، وهو يرى أنه يحوز له، فهو إن كانت كتابته جائزة، فإنما إقامته تطوع، وخدمته وإن كانت ليست بكتابة للشرط الذي اشترطه عليه في الخدمة مع أنها ليست بكتابة أصلا، وإنما رده على الخدمة للصبي لحاجته إليه؛ فأراها صدقة ماضية له، ليس لورثة الجد فيه قليل ولا كثير.
وقال أشهب: نعم، هو حوز له، ولم يكن يجوز للذي جعل العبد على يديه يحوزه للغلام أن يكاتبه إلا بإذن أبيه، فأما إذا أقر بذلك أبو الغلام ولم ينكره، فالكتابة جائزة بإقراره بهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا في الكتابة بشرط ألا يخرج المكاتب عن خدمة سيده، أنها ليست بكتابة أصلا، خلاف قول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه، من كتاب المكاتب أنها كتابة جائزة والشرط لازم؛ وقال أصبغ: يسقط الشرط وتنفذ الكتابة؛ وأما قوله: إن العبد إن كان ثبت في ناحية الجد المتصدق؛ لمكان ابن ابنِ المتصدق عليه وخدمته، فلا يضره أن خدم الجد المتصدق أحيانا، هو نحو ما في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من قول مالك، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.

.مسألة يتصدق على ابن له في حجره صغير:

قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يتصدق على ابن له في حجره صغير، أو بنت بكر في حجره بكتابة مكاتب له، فيقتضي الأب الكتابة بعد ذلك، وهي كتابة معروفة، ثم يهلك الأب بعد ذلك فيقوم ابنه أو ابنته المتصدق عليها بالكتابة، تطلب تلك الكتابة في مال أبيها، فتقوم البينة على الصدقة، وعلى قبض الأب الكتابة بعد ذلك، ولا يدري الشهود ما فعل الأب بها، فهل تؤخذ من تركة الأب، وتكون بمنزلة دين ثبت عليه، أم لا تكون الصدقة ماضية إذا لم يضع ذلك له على يدي غيره؛ قال: إن لم يكن إلا ما وصفت، فالصدقة باطلة لا ينعقد منها شيء، وهي ميراث بين الورثة؛ لأن الذي ذكرت ليست بحيازة بينة ولا تامة ولا قبض معروف، فلا أرى ذلك شيئا، إن لم يكن إلا ما قصصت، وقال أشهب: أراها ميراثا، ولا شيء للابن إذا لم يضع ذلك له على يدي غيره، مثل قول ابن وهب.
قال محمد بن رشد: اتفق ابن وهب وأشهب في هذه الرواية على أن الرجل إذا وهب لابنه الصغير كتابة مكاتب له، لا يكون المكاتب حائزا له ما عليه من الكتابة، وذلك على قياس ما في المدونة من قوله أن الكتابة ليست بدين ثابت، وإنما هي جنس من الغلة، وقد قيل: إنها كالدين يكون المكاتب حائزا لها عن سيده لابنه إذا وهبها له؛ وأما إذا كان للرجل دين على عبده من مبايعة أو سلف، فوهبه لابنه الصغير، فإنه يكون حائزا له كما لو كان الدين له على أجنبي، فوهبه لابنه حسبما مضى في رسم الرطب واليابس من سماع ابن القاسم؛ لأن دين الرجل على عبده دين من الديون يحاص به الغرماء، وهو معنى ما في نوازل أصبغ على الصحيح من التأويل، وقد قال بعض المتأخرين: إن الدين الذي للسيد على عبده كالكتابة، في أنه لا يكون حائزا لما عليه منه إذا وهبه السيد لابنه وهو بعيد؛ وأما ما بيد العبد لسيده، فهو بمنزلة ما بيد سيده إن وهبه السيد لابنه الصغير، وهو عرض مما يحوزه الأب لابنه إذا وهبه إياه، كان العبد حائزا له؛ واختلف إذا تصدق الرجل على ابنه الصغير بما بيده من العروض التي تجوز حيازته لها إذا وهبها لابنه، فجعلها بيد غيره؛ فقال ابن الماجشون أن ذلك لا يجوز؛ لأنه بمنزلة من قال: لا أحوز لابني، ثم أبقاه بيده، والصحيح أن ذلك جائز، إلا أن تكون دنانير أو دراهم مما لا يحوزها الأب لابنه إذا وهبه إياها، إلا أن يخرجها من يديه إلى غيره يحوزها له، وبالله التوفيق.

.مسألة قال لابنه إن ضمنت عني الخمسين دينارا التي علي فداري صدقة عليك:

وسئل عن رجل قال لابنه: إن ضمنت عني الخمسين الدينار التي لفلان علي، فداري صدقة عليك، فضمن عنه، فقال: لا صدقة له ولابنه إن شاء أن يرجع عن الضمان رجع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ذلك ليس بصدقة إنما هو بيع بضمان، وهي غرر لا يحل ولا يجوز، فالدار راجعة إلى الأب، والضمان ساقط عن الابن، إلا أن يشاء أن يلتزمه باختياره دون عوض، وبالله التوفيق.

.مسألة قال نصف غلامي صدقة على فلان ونصفه حر:

وسئل عمن قال: نصف غلامي صدقة على فلان ونصفه حر، قال: يقوم كله ويعتق نصف قيمته يدفعها إلى المتصدق عليه.
قال القاضي: اختلف قول ابن القاسم في هذه المسألة على قولين؛ أحدهما: أنه يقوم عليه نصيب المتصدق عليه لتقدم الصدقة قبل العتق؛ لأنه لما تصدق ببعضه صار كالعبدين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه، أنه يقوم عليه نصيب شريكه، وهو قوله في هذه الرواية وإحدى روايتي يحيى عنه في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب العتق، والقول الثاني أنه يعتق العبد كله، ولا يكون للمتصدق عليه شيء، وهو القول الذي رجع إليه في رواية يحيى المذكورة قياسا على قول مالك في الذي يتصدق بالعبد على الرجل، ثم يعتقه قبل أن يحوزه المتصدق عليه، أن العتق أولى به، ووجه القول الأول هو ما ذكرناه من أنه لما بدأ بالصدقة صار المتصدق عليه شريكا له فيه قبل أن يعتق منه حصته، فوجب أن يقوم عليه كالعبدين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه أنه يقوم عليه إن كان موسرا؛ وأما القول الثاني فإنما يتخرج على القول بأن الرجل إذا أعتق بعض عبده يكون حرا كله بالسراية دون أن يعتق عليه، وهو خلاف المشهور في المذهب من أن الرجل إذا أعتق شقصا له في عبد، فلم يعتق عليه حتى مات، كان باقيه رقيقا لورثته، وإن استدان دينا قبل أن يعتق عليه، بيع باقيه في الدين، ووجهه أنه لما أعتق نصفه بعد أن تصدق بالنصف الآخر قبل أن يقبض منه، راعى قول المخالف في أن الصدقة باقية على ملك المتصدق ما لم تقبض منه، فجعل العتق يسري إليه، فبطلت بذلك الصدقة؛ والقول الأول أظهر؛ لأنه هو الذي يأتي على المذهب في أن الصدقة تجب بالعقد، وعلى المشهور فيه من أن من أعتق شقصا من عبده، فالباقي منه على ملكه ما لم يعتق عليه، ولا يكون حرا بعتق ما أعتق منه؛ وأما إذا بدأ بالعتاقة فقال: نصف عبدي حر، ونصفه صدقة على فلان، فالمنصوص عن ابن القاسم في ذلك في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب العتق، ومن رواية عيسى عنه أنه يكون حرا كله، وتبطل الصدقة؛ وهذا إنما يأتي على القول بالسراية، وأما على مذهبه في المدونة في أن من أعتق بعض عبده، لا يكون باقيه حرا بالسراية حتى يعتق عليه، فإن وهبه أو تصدق به قبل أن يعتق عليه، قوم عليه، ولم تبطل الصدقة فيه ولا الهبة.
وقوله في هذه الرواية: إنه يقوم كله فيعتق، ويكون على المعتق نصف قيمته، هو الذي يأتي على أصل مذهب مالك، وظاهر الحديث أن العبد يقوم كله، فيكون على المعتق لشريكه نصف قيمته، وذلك خلاف قول ابن القاسم في سماع يحيى، من كتاب العتق: أن النصف المتصدق به، هو الذي يقوم على المعتق، ومثله في كتاب الجنايات من المدونة، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وليس المعتق كالواطئ؛ لأن الواطئ وطئ حق غيره، والمعتق لم يحدث على شريكه شيئا؛ فتحصيل الاختلاف في هذه المسألة أن فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الصدقة تبطل وينفذ العتق قدم الصدقة أو العتق. والثاني: أنها لا تبطل ويقوم على المعتق قدم الصدقة أو العتق. والثالث: أن الصدقة تبطل إن قدم العتق، ولا تبطل أن قدمها على العتق، وهذا كله على قياس القول بأن العتق والصدقة يجبان بنفس انقضاء اللفظ على ما في كتاب الظهار من المدونة من أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا، وأنت علي كظهر أمي؛ أن الظهار لا يلزمه؛ وأما على قياس القول بأن العتق والصدقة لا يجبان بنفس تمام اللفظ حتى يسكت بعده سكوتا يستقر به العتق أو الصدقة، وهو الصحيح من الأقوال على ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، في الذي يقول لامرأته قبل أن يدخل بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ أنها ثلاث، إلا أن يريد أن يسمعها، ولا يريد بذلك تكرار الطلاق، فسواء قدم العتق قبل الصدقة، أو الصدقة قبل العتق؛ فيلزمه نصف قيمة العبد للمتصدق عليه؛ لأنه إن قدم العتق قبل الصدقة، حصلت الصدقة قبله، فوجب عليه نصف قيمته، وإن بدأ بالصدقة قبل العتق حصل العتق قبلها، فوجب عليه نصف قيمته، إلا على القول بالسراية، وفي صفة التقويم قولان؛ أحدهما: أنه يقوم العبد كله، فيكون للمتصدق نصف القيمة. والثاني: أنه يقوم نصفه المتصدق به، وبالله التوفيق.